تحل علينا اليوم الذكري الـ54، لاستشهاد «الجنرال الذهبي» الفريق أول عبد المنعم رياض (رئيس أركان حرب القوات المسلحة الأسبق) خلال زيارته للخطوط الأمامية، على جبهة القتال، في مارس عام 1969.
وأصبح التاسع من مارس، تاريخا محفورا في الوجدان الوطني، حيث تحيى مصر والقوات المسلحة «يوم الشهيد»، تخليدا لاستشهاد الجنرال، عبد المنعم رياض، الذي ظل حتى رحيله، نموذجا لنمط القيادة داخل القوات المسلحة المصرية.
كتب القدر للبطل الشهيد نهاية، ستظل تُخلِّد سيرته ومسيرته، ككل من يسيرون على دربه في التضحية والفداء.. كان متسلحا (كعناصر القوات المسلحة، سواء من كبار القادة، أو ضباط وجنود في الميدان)، بعقيدة «النصر أو الشهادة».
فور عودته من العراق، بعد المشاركة في اجتماع رؤساء أركان حرب جيوش الجبهة الشرقية، توجه الفريق عبد المنعم رياض (9 مارس ١٩٦٩) إلى الخطوط الأمامية لجبهة القتال المباشر مع إسرائيل، تحديدًا، الجبهة المقابلة لموقع لسان التمساح.
قبل الزيارة بـ24 ساعة، استغلت إسرائيل تمركزها في لسان التمساح لقصف مدينة الإسماعيلية بالمدفعية والقذائف الصاروخية، فيما ردت القوات المصرية المتمركزة على الضفة الغربية لقناة السويس بقصف أهداف حيوية (نقاط تمركز إسرائيلية بخط بارليف).
حينها، غادر الجنرال عبد المنعم رياض، القاهرة، في تمام الساعة الحادية عشرة، يوم التاسع من مارس، متوجهًا إلى الجبهة بطائرة هليكوبتر، هبطت في أحد المطارات المتقدمة، ومن هناك استقل سيارة عسكرية إلى بعض مواقع الجبهة.
عندما بدأ القتال، في تمام الساعة الثالثة والثلث، بعد الظهر، عرف الجنرال عبد المنعم رياض أن العدو يركز على المناطق المدنية بالإسماعيلية وفى السويس، ويريد العدو أن ينتقم لبعض خسائره الفادحة، في معارك اليومين السابقين.
قرر الجنرال التوجه إلى الإسماعيلية (بعدما بادرت المدفعية المصرية بالرد المكثف على مواقع العدو) وفى الساعة الخامسة، كان يتفقد مواقع متقدمة بالإسماعيلية، قرب شاطئ قناة السويس مباشرة، متابعا سير المعركة ضد العدو.
توجه الجنرال، عبد المنعم رياض، إلى أقرب المواقع تقدمًا من قوات العدو، باتجاه المعدية رقم 6 بالإسماعيلية، للاطمئنان على القوات، والاطلاع على الوضع الميداني، متفقدًا مواقع عدة في الخطوط المتقدمة (وحدة مشاة، تبعد عن مرمى النيران الإسرائيلية 250 مترًا، فقط).
وفيما كان يتحدث إلى الضباط والجنود، ويسمع منهم، فجأة، بدأت القوات الإسرائيلية في استهداف موقعه، وراحت النيران تغطي المنطقة، لذا، كان لابد أن يهبط الجميع إلى حفر الجنود بالموقع (تتسع لشخصين أو ثلاثة).
انفجرت قنبلة معادية على حافة الموقع، أحدث انفجارها تفريغ هواء مفاجئ وعنيف كان الجنرال عبد المنعم رياض الأقرب إلى البؤرة التي بلغ فيها تفريغ الهواء مداه، فتعرض لما يشبه الانفجار في الجهاز التنفسي.
عندما انجلى الدخان والغبار تبين أن القائد الكبير أصيب بتقلصات وألم صامت.. خيط رفيع من الدم ينساب، بهدوء، من بين شفتيه.. سلَّم الروح إلى بارئها قبل أن يصل إلى المستشفى في الإسماعيلية، وفق ما رواه الكاتب الصحفي الراحل، الأستاذ محمد حسنين هيكل.
استلهام البطولة
يقدر الرئيس عبد الفتاح السيسى، دور الشهداء وتضحياتهم الوطنية، من واقع توجيهاته المستمرة، برعاية أسرهم، والتذكير بسيرتهم.. يقول «استلهمنا من بطولة الفريق عبد المنعم رياض معاني المجد والتضحية.. أتقدم بتحية تقدير واعتزاز لشهداء مصر الأبرار الذين قدموا دماءهم وأرواحهم من أجل أن تظل راية مصرنا العزيزة عالية خفاقة بين الأمم».
يؤكد الرئيس أن يوم الشهيد «ذكرى عزيزة، نستحضر فيها بطولات رجال صدقوا الوعد، وبذلوا كل غالً ونفيس من أجل أن يحيا هذا الوطن كريمًا، أبيًا مرفوع الرأس.. رجال رفضوا الاستسلام وآثروا المقاومة بشرف وبسالة ضاربين المثل للأجيال في الفداء، والتفاني والتضحية».
يوضح أن يوم الشهيد «مناسبة متجددة، لا نكرم فيه فقط أرواح الشهداء الأبرار، من القوات المسلحة والشرطة، لكن نكرم فيه أيضًا، عطاء الصامدين الذين يحملون مسئولية هذا الوطن، ويصلون الليل بالنهار، ليحيا شعب مصر العظـيم، في سلام وأمان واستقرار».
يشير إلى أنه «كما كان الماضي زاخرًا بأمجاد الأجداد فإن الحاضر أيضًا يأتي مصحوبًا بإنجازات الأحفاد، فما يسطره أبناؤنا من شهداء مصر الأبرار من تضحيات سيتوقف التاريخ أمامه إجلالًا واحترامًا وستأتي الأجيال اللاحقة تتفاخر وتتحاكى ببطولاتهم».
يشدد الرئيس (من موقع المسئولية) على أنه «لولا تلك الدماء الزكية الطاهرة التي سالت فداء لأمن الوطن ما كان يمكن توفير المناخ الآمن والمستقر لمصر لتنطلق نحو تحقيق التنمية الشاملة التي تجري في ربوع الوطن كافة».
العقيدة العسكرية
في دماء الشهداء الطاهرة، يكمن سر العقيدة العسكرية للقوات المسلحة المصرية، حيث تواصل المؤسسة تأكيدا للدور الوطني (من الماضي إلى الحاضر) عبر ترسيخ المثل والقدوة، والتعبير عن المبادئ والقيم والأخلاقيات، برجالها وقادتها، في كل المواقف.
تتبدى العقيدة العسكرية في التمسك بالمكتسبات الإستراتيجية، ومواجهة العدو في المكان والزمان المناسبين، والتجهيز النوعي لمسرح العمليات، ومراعاة المرونة التكتيكية، والإستراتيجية، مع منح القيادة الميدانية حرية أكبر في اتخاذ القرارات، خلال الحرب الخاطفة.
والعقيدة العسكرية (مفهوم، مرتبط بالضمير الإنساني، يمثل الفكرة الأساسية للجيش، عبر المفاهيم، المبادئ، السياسات، التكتيكات، التقنيات، التدريبات، وأساليب عمل القوات المسلحة، حتى تنجز مهامها، وفق قواعد مُلزمة، تراعي تطورات الميدان).
هناك فرق بين أنواع العقيدة العسكرية (الأساسية، البيئية، والتنظيمية) وبين المستوى الإستراتيجي للعقيدة العسكرية، وكذلك العقيدة الشاملة للدولة (التعاليم والقيم السامية والمبادئ السياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية والمعنوية والعلمية، المعبرة عن حضارة الشعب ووجدانه).
والعقيدة القتالية، تعني التقاليد والقيم والخبرات المتراكمة التي تحكم سلوكيات ومواقف المؤسسة العسكرية في الحياة العامة، والتحديد الواضح للعدو، والتهديدات، وكيفية الاستعداد لمواجهتها، وهي حالة يتماهى خلالها الجيش المصري مع الشعب في كل المحطات.
وقد جددت السنوات الأخيرة، التذكير، بهذا التماهي، الذي يحافظ على التراب الوطني، مدعومًا بتاريخ لا يعرف الطائفية أو العنصرية العرقية أو الدينية أو الطبقية، ومن ثم، يتبدى سر الاصطفاف والتماسك، الذي انتقل بمصر إلى بر الأمان، بالتزامن مع النهوض بكل قطاعاتها.
رمزية الجنرال
نعود لرمزية الجنرال، عبد المنعم رياض، والتي يجب أن تعد رسالة مهمة لكل الفئات، لاسيما الشباب الباحث عن القدوة، وكيف أن الشهداء يقدمون أرواحهم فداء لمصر، وحماية لأمنها وتعزيزا لسلامتها، وترسيخا لاستقرارها.
فبعد 40 يوما فقط، على استشهاد الجنرال عبد المنعم رياض، بادرت القوات المسلحة، حينها، بالانتقام لقائدها الشهيد، عبر عمليات نوعية، أشهرها الإغارة التي نفذتها المجموعة «39 قتال»، بقيادة العقيد إبراهيم الرفاعي (الشهيد لاحقًا).
تشهد دُشم تمركز القوات الإسرائيلية، في موقع «لسان التمساح»، بالخسائر التي تعرض لها العدو، يوم 19 إبريل 1969، بعد قتل 44 ضابطًا وجنديًا إسرائيليًا، وحرق معدات قتال معادية، وإسقاط علم إسرائيل الذي كان يرفرف فوق الدشم.
يقول اللواء محيي نوح (أحد أبطال المجموعة 39 قتال، وقائدها، بعد استشهاد العقيد، إبراهيم الرفاعي): «تحركنا في 6 قوارب، نفذنا الهجوم الشامل، على الموقع الإسرائيلي، ورغم الدُشم الحصينة، أحرقنا المنطقة الإدارية».
يضيف: «خلال عملية الثأر للفريق عبد المنعم رياض، أصبت بشظايا، وتم نقلي لمستشفى القصاصين، لإجراء عملية جراحية، حينها، كنت أتمنى الشهادة، ثم نقلوني لمستشفى المعادي، وهناك زارني الرئيس جمال عبد الناصر، ومدير المخابرات الحربية، اللواء محمد صادق».
المتغير الأهم، بعد استشهاد الجنرال، عبد المنعم رياض (الذي منحه الرئيس الراحل، جمال عبد الناصر، الوسام الأشهر، نجمة الشرف العسكرية) هو إشعال روح التحدي، والتأسيس لأكبر نصر عسكري، يحققه جيش عربي على إسرائيل، منذ نشأتها.
استشهاد الجنرال لم يكن شأنا مصريا، بل حالة استنفار عربية، بددت يأس ما بعد نكسة عام 1967.. يقول الأستاذ، محمد حسنين هيكل: «معرفته بالعالم العربي، وحديثه عنه، وتصوره لإمكاناته، كانت دقيقة، بحكم المعرفة المباشرة».
يرسم الأستاذ هيكل صورة حية لشخصية الجنرال رياض: «لم يكن في تصوراته يتجاهل الحقائق، كان شديد الوعي بأهمية التنمية، كان يرى أن شرف أي أمة هو مصدر ثقتها الوحيد بأنها تستطيع التصرف بإرادتها، وأن تحقق ما تشاء».
ظاهرة وطنية
الجنرال، عبد المنعم رياض، يعبر عن ظاهرة وطنية مصرية، لا تتأثر بعوامل الزمن، حيث تتواصل روح البطولة، وتتجسد في حالة كل شهيد، يسقط دفاعًا عن مصر (الأرض، الشعب، والمقدرات) حربا وسلما.
تتواصل الظاهرة من زمن الحروب التقليدية، إلى عصر الحروب الهجينة (استراتيجية عسكرية تشمل الحروب التقليدية وغير النظامية والسيبرانية).. في كل مرة يتجدد الاحتفاء بشهداء الواجب عناوين الفداء.
رسَّخ الفريق أول عبد المنعم رياض (بأفعاله وأقواله)، القدوة والمثل لكل فرد في القوات المسلحة.. نصائحه لغيره من الضباط والصف ضباط معبرة جدا: «كن مع جنودك في السلم ومعهم في الصفوف الأمامية في الحرب».
لا تتوقف نصائحه عند هذا الحد: «حافظ دائمًا على مسافة كبيرة بينك وبين مرؤوسيك في تحصيلك ووعيك بالعلم العسكري.. لا تتسرع في قراراتك وحينما تقرر لا تتراجع ولا تتردد.. لا تكن تقليديًا، وعليك السعي الدائم للإبداع والابتكار».
يضيف: «لا تتكبر ولا ترفع الكلفة، كن قدوة صادقة لجنودك، احمل معك (دائمًا) ميزانًا حساسًا للثواب والعقاب، ولا تجعل جنودك حتى في أحلك الظروف واللحظات يرون عليك علامات القلق أو الارتباك».
يقول: «لا تنس أبدًا أن معظم الحرائق من مستصغر الشرر، تنمية الإحساس بالواجب ضرورة، لو كل مصري عرف واجبه، وحرص على تأديته بدوافع ذاتية، دون خوف من العقاب أو طمع في الثواب، فإنه لا يمكن لقوة على الأرض أن تهزم مصر».
خلال رئاسته لأركان حرب القوات المسلحة، نجح الجنرال عبد المنعم رياض، في إعادة تسليح الجيش المصري، وأعاد تنظيم ورفع كفاءة القوات (خاصة الجيشين الثاني والثالث، وقوات الدفاع الجوي).
تحت قيادته، تكررت الانتصارات النوعية للجيش، خلال حرب الاستنزاف (معركة رأس العش، تدمير المدمرة إيلات، إسقاط طائرات إسرائيلية، فضلا عن تحطيم أسطورة: الدبابة تقابلها دبابة، فأصبح المقاتل المصري يهزم الدبابات الإسرائيلية).
كان يقول: «إذا وفرنا للمعركة القدرات القتالية المناسبة وأتحنا لها الوقت الكافى للإعداد والتجهيز وهيأنا لها الظروف المواتية فليس ثمة شك في النصر الذي وعدنا الله إياه، ولن يكون ذلك إلا بهمة الرجال الأقوياء».
ظل الجنرال عبد المنعم رياض حتى رحيله يؤمن بحتمية الحرب ضد إسرائيل، ويعتقد أن «العرب لن يحققوا نصرًا عليها إلا في إطار إستراتيجية شاملة تأخذ في الاعتبار البعد الاقتصادي وليس مجرد إستراتيجية عسكرية».
يحق له أن يفخر بمسيرته العسكرية، بعدما شارك في 5 حروب (الحرب العالمية الثانية، حرب تحرير فلسطين عام 1948، مواجهة العدوان الثلاثي عام 1956، حرب الاستنزاف) وحصل على العديد من الأنواط والأوسمة.
قبل توليه رئاسة أركان حرب القوات المسلحة المصرية، شغل منصب رئيس هيئة العمليات، ورئيس أركان القيادة العربية الموحدة، وأشرف على الخطة المصرية لتدمير خط بارليف، خلال حرب الاستنزاف.
الجنرال عبد المنعم رياض، من مواليد قرية «سبرباى» (التابعة لمدينة طنطا، بمحافظة الغربية) في 22 أكتوبر 1919، زامله في الكلية الحربية: حسين الشافعي، أنور السادات، جمال سالم، يوسف السباعي.
خلال 3 سنوات أتقن الإنجليزية والفرنسية والألمانية والروسية، وصفه الروس بـ«الجنرال الذهبي»، ورثاه الشاعر الراحل، نزار قباني: «يا أيّها الغارقُ في دمائهِ جميعهم قد كذبوا، وأنتَ قد صدقتْ.. جميعهم قد هُزموا، ووحدكَ انتصرتْ».
تنشيط الذاكرة
وكعادتها، تحرص وزارة الدفاع، على التذكير بتضحيات الشهداء وبطولاتهم (عبر فيديوهات من إنتاج إدارة الشؤون المعنوية للقوات المسلحة) لتنشيط الذاكرة الوطنية، في مناسبة يوم الشهيد والمحارب القديم، تتضمن ذكريات وحكايات موثقة.
توضح الفيديوهات أن البطولة اختيار، بينما الشهادة «قدر»، وأن التضحيات لم ولن تتوقف، بعدما اقسم رجال القوات المسلحة بصون أرض مصر، وتحويل المستحيل إلى فرص، وحماية أمنها القومي.
وأعدت القوات المسلحة وجمعية المحاربين القدماء وضحايا الحرب خطة شاملة للاحتفال بيوم الشهيد والمحارب القديم، بوضع أكاليل الزهور على قبر الجندي المجهول، وتنظيم فعاليات ومهرجانات ومعارض لإبداعات وأعمال المحاربين القدماء وأسر الشهداء والمصابين.
تشمل الأنشطة أيضا، تكريم أسر الشهداء ومصابي العمليات الحربية في جميع محافظات الجمهورية بمشاركة الجيوش الميدانية والمناطق العسكرية في الاحتفال، وزيارة مصابي العمليات الإرهابية بالمستشفيات العسكرية.
يحدث هذا بينما يستحضر الجميع مقتطفات من الخطاب التاريخي، الذي ألقاه الرئيس الراحل محمد أنور السادات، يوم 16 أكتوبر عام 1973، متحدثا للأمة المصرية، من داخل البرلمان، ومعلنا من خلاله انتصار مصر في معركة الحرب والسلام.
نتذكر قوله: «سوف يجيء يوم نجلس فيه لنقص ونروى ماذا فعل كل منا فى موقعه، وكيف حمل كل منا الأمانة وكيف خرج الأبطال من هذا الشعب وهذه الأمة فى فترة حالكة ليحملوا مشاعل النور وليضيئوا الطريق حتى نستطيع أن نعبر الجسر ما بين اليأس والرجاء».
ونتوقف عن هذه الفقرة المعبرة عن التضحيات: «عاهدت الله وعاهدتكم على أن نثبت للعالم أن نكسة 1967 كانت استثناء فى تاريخنا وليست قاعدة.. أعلم علم اليقين بأن نضال شعبنا وأمتنا لا يعلو عنها وللوصول إليها وتأكيد قيمها وأحلامها العظمى».