قد لا تكون أفراس النهر هي أول ما يتبادر إلى أذهان العلماء عندما يفكرون في دراسة أحد الأوبئة أو الأمراض المتوطنة في منطقة ما من العالم، ولكن الصدفة البحتة هي التي أتاحت لفريق من الباحثين من الولايات المتحدة فرصة لدراسة دور هذه الحيوانات الضخمة في انتشار وباء الجمرة الخبيثة في منتزه “رواها الوطني” بتنزانيا خلال موسم الجفاف عام 2017.
وتمثل هذه الدراسة التي أجراها فريق من الباحثين من جامعة كاليفورنيا في سانتا مونيكا بالولايات المتحدة ونشرتها الدورية العلمية “إيكو سفير” فرصة فريدة لدراسة النظم البيئية في ظل التعرض لوباء ما، واستعراض التغيرات التي تطرأ على صحة الانسان وعناصر الحياة البرية بشكل عام جراء هذا المرض.
ويقول الباحث كينان ستيرز المتخصص في مجال البيئة والنظم الحيوية البحرية في جامعة كاليفورنيا: “لم أكن اعتزم في الأصل دراسة هذا الموضوع، ولا يمكن أن يخطط أحد لحدوث وباء ما.. فهذه المسألة تحدث بالصدفة البحتة“.
وكان ستيرز وفريقه العلمي يهدفون في الاساس إلى دراسة سلوكيات وأنماط حياة أفراس النهر في مواسم الجفاف، ومن أجل هذا الغرض، قاموا بتثبيت أطواق تحتوي على أجهزة لتحديد المواقع عن طريق الأقمار الصناعية في عشرة ذكور من حيوانات أفراس النهر في حوض نهر رواها بتنزانيا
وكان ستيرز وفريقه متواجدين في منطقة الدراسة في الفترة ما بين عامي 2016 و2017 لإجراء إحصاء لأعداد أفراس النهر وصيانة الأجهزة المستخدمة في التجربة، بعد أن ظلت أجهزة تحديد المواقع مثبتة في رقاب تلك الحيوانات لمدة عام تقريبا، حيث لاحظ أن أحد الأطواق لم تتحرك منذ عدة أيام، وظن ستيرز في البداية أن جهاز تحديد المواقع لابد وأن يكون قد سقط من فرس النهر. وأثناء البحث عن الجهاز المفقود، عثر على بركة من المياة الراكدة تحتوي على ست جثث لأفراس نهر نافقة، وعندئد أدرك ستيرز أنه رصد موجة وبائية لمرض الجمرة الخبيثة.
ومن المعروف أن الجمرة الخبيثة هي مرض بكتيري له العديد من الاعراض تختلف حسب طبيعة انتقال العدوى، وقد تظل هذه البكتيريا كامنة في التربة لسنوات، ويمكن أن تنتقل عن طريق الحيوانات بمجرد أن تنفق.
وشرع الفريق في البداية في دراسة كيف تتفاعل أفراس النهر مع البرك والمستنقعات الملوثة بالجثث المصابة بالجمرة الخبيثة، بعدما تبين لهم وجود العديد من برك المياه الراكدة على امتداد حوض نهر رواها، وبدأ الفريق في جمع عينات من مياه هذه البرك للتحقق من انتشار بكتيريا الجمرة الخبيثة في هذه المستنقعات.
وعكف فريق الدراسة على إجراء عمليات احصاء يومية لأعداد أفراس النهر سواء التي نفقت أو التي مازالت على قيد الحياة، واستطاعوا من خلال هذه الإحصاءات معرفة نطاق ومعدل انتشار الوباء وكذلك الاتجاه الذي يتحرك صوبه. وكان الباحثون مهتمين أيضا بدراسة نسق تحركات أفراس النهر، وما إذا كان الوباء يؤثر على سلوكياتها.
ووجد الباحثون أن الوباء ليس له تأثير ملحوظ على سلوكيات أفراس النهر، فقد كانت الحيوانات المصابة تتجول مثل نظيراتها السليمة، ويقول ستيرز، في تصريحات للموقع الإلكتروني “ساينس ديلي” المتخصص في مجال العلوم، إن “هذه الظاهرة تنطوي على تداعيات خطيرة لأنها تدل على أن الحيوان الواحد يمكن أن ينقل العدوى قبل أن ينفق، وبالتالي يصنع خزانات جديدة للعدوى“.
ويوضح أنه في ظل ظروف معينة، يستطيع الحيوان أن يعيش عدة أيام قبل أن تقضي عليه الجمرة الخبيثة، ونظرا لأن فرس النهر يقطع زهاء سبعة كيلومترات في الليلة الواحد بحثا عن المياه، فإن هذه الحيوانات يمكن أن تنشر المرض على امتداد مسافات بعيدة وخلال فترات قصيرة.
وتبين لفريق الباحثين أيضا أن أفراس النهر فيما يبدو لا تتجنب جثث الحيوانات النافقة. ويقول الباحثون إن موسم الجفاف ليس أفضل أوقات السنة بالنسبة لهذه الحيوانات البرمائية، ويوضح ستيرز: “عندما تجف الأنهار، تضطر أفراس النهر إلى التجمع في برك المياه القليلة المتبقية”، وأضاف أن “جفاف الأنهار كان أحد الأسباب الرئيسية وراء انتشار الأوبئة بصورة حادة على مدار سنوات“.
ويقول الباحثون إن أفراس النهر قد تتجنب في العادة البقاء بجوار جثث الحيوانات النافقة في الظروف العادية، ولكن مع نقص المياه، فإنها تضطر للبقاء في برك المياه الأسنة مع الجثث الناقلة للمرض.
ويؤكد الباحث دوج ماكولي عضو فريق الدراسة أن “فهم طبيعة تفشي المرض بين أفراس النهر مسألة بالغة الأهمية، لأننا في كثير من الاحيان لا ندرك أن أفراس النهر هي فصيلة مهددة بالخطر في كثير من المناطق، فهناك على سبيل المثال أعداد أقل من أفراس النهر مقارنة بالأفيال الإفريقية، ويبدو أن المزيد من المشكلات تنتظرها في المستقبل بسبب تأثير التغيرات المناخية على الأنهار، وهو ما قد يزيد من مخاطر تعرضها للأمراض والأوبئة“.
ويعتزم ستيرز دراسة السجلات التاريخية لموجات جفاف الأنهار عبر القارة الإفريقية وارتباطها بانتشار أوبئة الجمرة الخبيثة خلال الفترات الماضية، ويؤكد أنه لا توجد كثير من الأبحاث التي تتناول هذه الظاهرة، ويعتقد أن هذه السجلات التاريخية سوف تكون بمثابة كنز من المعلومات والبيانات.
وتقول الباحثة ميليسا شميدت التي شاركت في الدراسة إن “حساسية أفراس النهر تجاه الظروف السيئة يجعلها مؤشرا جيدا لمعرفة تأثير التغير المناخي على ديناميكيات انتشار الأوبئة وتأثيرها على صحة الحياة البرية بشكل عام”، حيث يرى العلماء أن تسليط الضوء على هذه العوامل قد يساعد في التنبؤ بالعناصر التي تؤثر على حدوث الأوبئة في المستقبل.