بن قرية شبراتنا التابعة لبسيون أول ضابط مصرى فى العصر الحديث يقود معركة كبرى فارقة وينتصر بجيش مصرى تماما، معركة مثل معارك الصليبيين والتتار، الفرق الوحيد هذه المرة أن القائد مصرى، والحاكم مصرى، والجيش مصرى، والتراب مصرى، والدم مصرى، والهدف تحرير أرض مصرية من احتلال إسرائيلى غاصب،
وكان الشاذلى برتبة فريق، حين تولى رئاسة أركان حرب القوات المسلحة فى حرب العاشر من رمضان السادس من أكتوبر عام 1973.
فور تخرجه من الكلية الحربية عام 1948، وجد الشاذلى نفسه فى حرب فلسطين، واستطاع وهو الضابط الصغير (مواليد أبريل 1922) أن يسقط طائرة إسرائيلية بمدفعه الرشاش فى وقت كانت إسرائيل تملك طائرات قليلة.
وفى عام 1953 سافر لبعثة تدريبية فى أمريكا، فكان أول مصرى يحصل على فرقة رينجرز من مدرسة المشاة الأمريكية، وبعد عودته أسهم فى تأسيس سلاح المظلات، ثم قاد وحدات المظليين المصريين بالكونغو عام 1966، وحدث هناك الخلاف الشهير بينه وبين أحمد إسماعيل.
أين كان فى معركة 67؟
عندما حدثت الفوضى والارتباك فى معركة 1967، كان الجيش المصرى ينسحب للخلف، بينما الشاذلى يدخل بقواته الأراضى الفلسطينية، كان برتبة لواء يقود مجموعة من 1500 ضابط وجندى وسط سيناء، انقطع الاتصال بينه وبين قيادة الجيش بعد ضرب المطارات وصدور الأمر بالانسحاب العشوائى، وكان عليه أن يتصرف، خاصة بعد أن رأى الطيران الإسرائيلى يسيطر على سيناء، فاتخذ قراره الجرىء وعبر بقواته شرقا، وتمركز داخل الأراضى الفلسطينية داخل النقب، وظل هناك لمدة يومين 6 و7 يونيو فى موقع بين جبلين لحماية قواته إلى أن تمكن من الاتصال بالقيادة التى أصدرت إليه الأمر بالانسحاب، فقام بعمل مناورة عسكرية وانسحب ليلا فى ظروف صعبة بخسائر لا تذكر، رغم أنه قطع مسافة 200 كيلو متر من شرق سيناء إلى غرب القناة فى أرض أصبح يسيطر عليها العدو الإسرائيلى، وهذه العملية جعلته يكتسب سمعة كبيرة فى صفوف الجيش، فتم تعيينه قائدا للقوات الخاصة والصاعقة والمظلات، وفى 16 مايو 1971 عينه الرئيس السادات رئيسا لأركان حرب القوات المسلحة، ليبدأ منذ هذه اللحظة تخطيطه لحرب أكتوبر.
بداية التخطيط للمعركة
عندما تولى منصبه الجديد، اكتشف عدم وجود خطة هجومية بالقوات المسلحة، وإنما خطة دفاعية »الخطة 200«، وخطة أخرى »جرانيت« للقيام ببعض غارات على مواقع العدو، وبعد قيامه بدراسة إمكانات القوات المسلحة الفعلية، ظهر له ـ كما يقول فى مذكراته عن حرب أكتوبر ـ أنه ليس من الممكن القيام بهجوم واسع النطاق يدمر قوات العدو ويرغمه على الانسحاب من سيناء وقطاع غزة، وأن إمكاناتنا الفعلية تمكنا إذا أحسنا تدريبها وتجهيزها من عملية هجومية محددة لعبور قناة السويس، وتدمير خط بارليف ثم التحول للدفاع، فقواتنا الجوية ضعيفة جدا بعد تدميرها مرتين فى حربى 56 و67.
ومنذ البداية اعتمدت خطته على تجنب المواجهة المباشرة مع قوات العدو الجوية، وأن تقوم قواتنا الجوية بضربات مفاجئة فى الأوقات والأماكن التى نستبعد فيها تدخل قوات العدو الجوية.
ويشرح ذلك قائلا: كنت أريد للقوات البرية الإسرائيلية أن تتأثر نفسيا بهجماتنا الجوية دون الدخول فى معارك جوية، لأننى كنت مقتنعا أننا إذا لم نستخدم طيراننا بحرص وذكاء قد نخسره للمرة الثالثة.
أستاذ التفاصيل
والشاذلى كرجل مظلات مشغول دائما بالتفاصيل، بل إنه أستاذ التفاصيل وأهم أعلام العسكرية المعاصرة كما وصفه الكولونيل الأمريكى »ديبوى«.
كان يهتم بكل شىء للمقاتل بداية من زمزمية المياه مرورا بالتدريب الجيد وانتهاء بالحالة النفسية والمعنوية، يقول: لقد تعلمت من اشتراكى فى خمس معارك سابقة أن الحرب تعلم الحرب، وأن ميدان المعارك أنسب الأماكن لتدريب الرجال على فنون الحرب، فمهما بلغنا لا نستطيع أن نخلق الأثر النفسى للحرب الذى هو خليط من الشجاعة والكبرياء وحب البقاء.. أتوقع أن يلعب نجاحنا فى هذه الحرب دورا مهما فى رفع معنويات قواتنا المسلحة بعد ثلاث هزائم أمام إسرائيل خلال الـ25 سنة الماضية، كنت أرى الحرب مخاطرة محسوبة وليست مغامرة.
ولذلك كانت مهمة الوصول والسيطرة على قوات مسلحة قوامها حوالى مليون ضابط وجندى مسألة صعبة جدا لرجل مشغول بأدق التفاصيل كالشاذلى، فعمل على تجميعها فى 14 قيادة (بحرية ـ طيران ـ دفاع جوى ـ جيش ثان.. الخ)، وكان يقوم بعمل لقاء شهرى يحضره جميع القادة وعدد كبير من الضباط، وناقش خلال هذه اللقاءات كل مشكلات القوات المسلحة بطريقة علمية شفافة، كما أزال خلال هذه اللقاءات الخلافات بين ضباط الميدان وضباط أركان الحرب، وأصدر 53 توجيها للضباط والجنود لكيفية التعامل مع المواقف المختلفة أثناء القتال، وكان التوجيه 41 خاصا بحرب أكتوبر، كما أصدر كتيبات صغيرة لعشرة آلاف قائد سرية.
كل شىء عنده يخضع لدقة شديدة ولا يوجد شىء للصدفة.. فبعد عبور القناة، يقوم سلاح المهندسين بفتح 70 ثغرة فى الساتر الترابى، وإنشاء 10 كبارى ثقيلة لعبور الدبابات، وخمسة كبارى خفيفة حتى نتجنب نيران العدو، وتشغيل وتجهيز 35 معدية وتشغيل 720 قاربا مطاطيا لعبور المشاة، وجميع هذه المهام تتم تقريبا فى الوقت نفسه، ولذلك تم حساب كل شىء بالدقيقة والثانية، وحتى المسافة بين كل قارب وآخر كانت محددة بدقة، فكانت 25 مترا بين كل قارب وآخر داخل سرية المشاة،200 مترا بين كل سرية وأخرى، 400 متر بين كل كتيبة وأخرى، و800 مترا بين كل لواء، والمسافة بين كل فرقة مشاة وأخرى نحو 15 كيلو مترا.
العبور وتدمير خط بارليف كان بكل المقاييس عملية مستحيلة، حتى إن موشى ديان وزير الدفاع الإسرائيلى قال: لكى تستطيع مصر عبور قناة السويس واقتحام خط بارليف، فإنه يلزم تدعيمها بسلاحى المهندسين الروسى والأمريكى معا.
درس الشاذلى أيضا إسرائيل ليعرف نقاط قوتها وضعفها ليجرها إلى قتال فى ظروف غير مناسبة لها.
كان العبور وتحطيم خط بارليف بالنسبة له مرحلة من مراحل الحرب تناسب ما لديه من أسلحة، لأنه كان يعتمد على حرب طويلة المدى يكون فيها مقتل إسرائيل التى لا تستطيع أن تحتمل حربا طويلة ولا تعبئة طويلة لقواتها، لأن هذا سيرهق اقتصادها ويصيب خدماتها بالشلل.
إن لإسرائيل مقتلين: الأول الخسائر فى الأفراد، والثانى إطالة أمد الحرب، لأن الجندى الإسرائيلى الذى يستدعى للتعبئة هو نفسه العامل والمهندس فى المصنع، وهو الذى يقوم بجميع الأنشطة فى الدولة.. فكيف لهذه الدولة أن تعيش لو امتدت الحرب 6 أشهر فقط؟، وما بالك بأكثر من هذا؟.
كانت إسرائيل ـ كما يذكر الشاذلى ـ فى كل حروبها تفضل أسلوب الحرب الخاطفة، ولذلك كان لابد أن نفرض عليها حربا بأسلوب ليس فى مصلحتها، فلو أننا توقفنا شرق القناة بمسافة تتراوح بين 10 : 12 كيلو، فإننا سنوجد لها موقفا صعبا، فإذا قامت بالهجوم سيكون لدينا الفرصة لأن تحدث فى قواتها المهاجمة خسائر كبيرة سواء فى القوات الأرضية أو الجوية، لأنها تحت مظلة دفاعنا الجوى.
كانت خطة الشاذلى باسم المآذن العالية جاهزة منذ عام 71 وعرضها على الفريق محمد صادق وزير الدفاع وقتها، ولكن الفريق صادق اعترض عليها لأنها لا تحرر سيناء وغزة، وطلب خطة أخرى، فكانت خطة »جرانيت«، لكنها كانت تحتاج أسلحة ومعدات لا تتوفر للجيش المصرى فى ذلك الوقت، ومع نهاية عام 72 كانت خطة المآذن العالية هى الوحيد الممكنة، وعرضها على وزير الحربية الجديد أحمد إسماعيل فوافق عليها رغم اعتراضه عليها عندما كان مديرا للمخابرات والتى تغيرت فى سبتمبر 1973 الى الخطة بدر .
توقع الهجوم المضاد
لم يغفل الشاذلى أثناء تخطيطه للمعركة توقيت الهجوم المضاد الذى سيقوم به العدو. ففى جميع مشاريعنا كنا نتوقع أن يقوم العدو بهجومه بعد فترة تتراوح بين 36 و48 ساعة من بدء الهجوم هكذا يقول الشاذلى، لكن هيئة العمليات التى كان يرأسها اللواء عبدالغنى الجمسى قررت بدء الهجوم بعد 24 ساعة فقط من الحرب، على الرغم من كل ما نقوم به من عمليات خداعية، وأن العدو سيكشف استعداداتنا قبل الحرب بثلاثة أيام، وبالتالى يكون لديه الوقت اللازم لتعبئة قواته والهجوم علينا بعد 24 ساعة.
أما إدارة المخابرات، فكانت أكثر حذرا، ولم تعترف بأن خطتنا الخداعية قادرة على خداع العدو، وسوف يكشف نياتنا قبل الحرب بـ15 يوما، وأنه سيتمكن من حشد 18 لواء فى سيناء قبل المعركة، وبالتالى فإنه يتوقع أن يقوم العدو بهجومه خلال 6 : 8 ساعات.
لم أكن مقتنعا برأى مدير المخابرات ـ يقول الشاذلى ـ ولكن لا يمكن إهماله، ويجب وضعه فى الحسابات.
كانت خطتنا فى العبور أن يعبر المشاة فى قوارب مطاطية حاملين معهم أسلحتهم الخفيفة التى يستطيعون حملها أو جرها إلى الشاطئ الآخر، وكنا ننتظر أن تبدأ المعديات فى العمل بعد العبور بخمس أو سبع ساعات، أما الكبارى فتكون جاهزة خلال 7 أو 9 ساعات، والدبابات والأسلحة الثقيلة تحتاج 12 ساعة لتكون قادرة على صد هجوم العدو المضاد على الضفة الأخرى، فإذا قام العدو بهجومه المنتظر ما بين 6 و8 ساعات كما جاء فى تقرير المخابرات، فمعنى ذلك أنه يسبقنا بنحو 4 ساعات، وتكون لديه فرصة جيدة لتدمير مشاتنا قبل أن تصل إليها دباباتنا وأسلحتنا الثقيلة،
ولذلك قمنا بزيادة عدد الصواريخ المضادة للدبابات التى يحملها المشاة معهم أثناء العبور، وقررنا زيادة عدد القوات المكلفة بالعمل فى عمق العدو بهدف تعطيل قواته المكلفة بالهجوم المضاد، وفرضنا على قوات المشاة ألا يتجاوز تقدمهم 5 كيلو مترات شرق القناة .
مشكلة الثغرة قبل المعركة
كانت مشكلة الثغرة موجودة قبل حدوثها، بل حتى قبل الحرب، فالشاذلى يقول: إن وزير الحربية أحمد إسماعيل أخبره فى شهر أبريل 73 بأنه يرغب فى تطوير هجومنا فى الخطة لكى يشمل الاستيلاء على المضايق، فأعدت عليه ذكر المشكلات التى تمنع ذلك، وبعد نقاش طويل أخبرنى أن السوريين لن يقبلوا أن يكونوا معنا إذا علموا أننا نهدف إلى 10 أو 15 كيلو شرق القناة، فأخبرته أننا يمكن أن ندخل هذه المرحلة بمفردنا ونجاحنا سوف يغرى السوريين، فطلب تجهيز خطة أخرى تشمل تطوير الهجوم إلى المضايق، وأن هذه الخطة لإقناع السوريين، وقمت بتجهيز هذه الخطة التى لم تكن إلا الخطة »جرانيت«، بعد تعديلات طفيفة تم دمجها فى الخطة بدر التى هى خطة العبور، وأطلقنا عليها المرحلة الأولى، وخطة التطوير المرحلة الثانية.. كنا نناقش خطة العبور بالتفصيل الدقيق ثم نمر مرورا سريعا على المرحلة الثانية التى لم نتوقع تنفيذها، وكل قادة الجيوش يعرفون ذلك.
على بعد 200 متر من العدو
كان الشاذلى دائم الزيارات للجبهة، ويوم الجمعة 5 أكتوبر زار كلا من الجيشين الثانى والثالث، وجال بخاطره أن يلقى نظرة على مواقع العدو وهو نفس ما فعله وزير الدفاع الإسرائيلى صباح 6 أكتوبر، عندما ألقى نظرة على القوات المصرية واطمأن إلى استرخائها.
تحرك الفريق الشاذلى ومعه اللواء سعد مأمون قائد الجيش الثانى إلى نقطة قريبة من العدو بأقل من 200 متر، ليجد كل شىء هادئا تماما، ولا يوجد ما يدل أنهم شعروا باستعداداتنا.
ونهاية هذا اليوم حاول الشاذلى أن ينام مبكرا دون جدوى، كان سيناريو الحرب يدور فى خياله، حتى إنه تمنى لو تم تصوير المعركة.
ويوم 6 أكتوبر، وصل الرئيس السادات إلى مركز العمليات 10 الساعة الواحدة ظهرا، ودخل غرفة العمليات مع وزير الحربية، وفى الساعة الثانية وخمس دقائق قامت قواتنا بتوجيه ضربتها لمطارات العدو ومراكز قيادته، واشترك فى هذه الضربة أكثر من 200 طائرة عبرت القناة على ارتفاع منخفض
ثم بدأت مدفعيتنا عملية القصف التحضيرى المكثف 2000 مدفع هاون لكل منها واجب خاص وعدد الطلقات التى يطلقها على مواقع العدو، وفى الوقت نفسه تسللت عناصر المهندسين والصاعقة للتأكد من إغلاق المواسير التى تنقل السائل المشتعل إلى سطح القناة، كما قامت بعض قوات الصاعقة باحتلال المصاطب خلف خط بارليف بـ 2 كيلو.
وكان الجميع ينتظرون عبور المشاة لأنه هو الذى سيحدد مصير المعركة، وبينما كنا ننتظر كأن على رؤوسنا الطير كما يقول الشاذلى وصلت المعلومات بعبور الموجة الأولى فشعرنا بالفرحة، وبعد أن أطمأن الرئيس السادات انسحب هو أحمد اسماعيل وزير الحربية للراحة.
بدأت الموجة الأولى للمشاة بـ 4000 رجل على 720 قاربا مطاطيا، كل قارب يحمل معه سلالم حبال، وتم تثبيت 1440 سلما على الساتر الترابي.
وبحلول الساعة الثامنة صباح يوم 7 أكتوبر أصبح لنا 5 فرق مشاة وألف دبابة على الضفة الأخرى وحققت قواتنا نجاحا حاسما فى معركة القناة ونجحت فى عبور أصعب مانع مائى فى العالم وحطمت خط بارليف فى 18 ساعة وهو رقم قياسى لم تحطمه أى عملية عبور فى تاريخ البشرية. وخسر العدو 30 طائرة و300 دبابة وعدة آلاف من القتلي. بينما خسرنا 5 طائرات و20 دبابة 280 شهيدا.
وظيفة جديدة للدبابات
فى يوم 8 أكتوبر كان لنا 1000 دبابة فى الضفة الشرقية، وحشد العدو 960 دبابة ورغم تفوقنا العددى البسيط إلا أن دبابات العدو كانت أكثر تطورا خاصة لو حدثت معركة بين الدبابات. ولذلك حرص الفريق الشاذلى على أن يتحاشى الدخول مع العدو فى مواجهة مباشرة بالدبابات، علاوة على أن دباباتنا كانت محدودة الحركة لأنها ضمن الهيكل التنظيمى لألوية المشاة. أما العدو فكان عنده حرية حركة وسرعة فى المناورة.
ويقول الشاذلى إن ذلك لم يكن جهلا منا بأصول استخدام الدبابة ولكن بسبب ضعف تسليح دباباتنا وضعف قواتنا الجوية كانا يفرضان علينا أن نستخدم دباباتنا بأسلوب دفاعى دون دخول معارك دبابات كاملة.
وقد حقق هذا الأسلوب نتائج مبهرة. وعندما قمنا بتغيير هذا الأسلوب يوم 14 أكتوبر بناء على قرار سياسى تمكن العدو من تدمير 250 دبابة فى أقل من ساعتين.
الشاذلى على جبهة الحرب
يوم 8 أكتوبر كان الشاذلى فى قلب المعركة يقوم بزيارة الجبهة وبدأ بالجيش الثانى وألتقى اللواء سعد مأمون ثم الفرقة الثانية مشاة ثم قيادة الجيش الثالث.
والتقى جنوده وضباطه وكان سعيدا بروحهم المعنوية العالية رغم عدم نومهم منذ 42 ساعة ثم قام بزيارة أحد مواقع خط بارليف، كان هو الموقع نفسه الذى نظر إليه يوم الجمعة قبل بدء العمليات بـ 24 ساعة. وكان موقعا منيعا سقط قبل زيارته بساعات.
بداية التدخل السياسى فى المعركة
بعد فشل الهجوم الاسرائيلى المنتظر تحرك الشاذلى للجبهة مرة ثانية صباح الخميس 11 أكتوبر وعاد وهو أكثر أطمئنانا على موقف قواتنا.
لكنه يقول بعد أن عدت من الجبهة فاتحنى الوزير أحمد إسماعيل فى موضوع تطوير الهجوم نحو المضايق، عارضت الفكرة، وقلت: إن القوات الجوية الاسرائيلية مازالت قوية وتشكل تهديدا خطيرا لأى قوات برية تتحرك فى العراء دون غطاء جوي، وبدا لى أنه أقتنع وأغلق الموضوع وعاد فى اليوم التالى وفاتحنى فى موضوع بحجة أنه يهدف إلى تخفيف الضغط عن سوريا.
فقلت: ليس لدينا دفاع جوى متحرك إلا أعدادا قليلة لا تكفى لحمايتنا. وقواتنا الجوية ضعيفة وبالتالى ستقع قواتنا فريسة للقوات الجوية الإسرائيلية بمجرد خروجها من مظلة الدفاع الجوي، أى بعد 15 كيلو شرق القناة.
ولكن عند الظهر تطرق الوزير إلى نفس الموضوع للمرة الثالثة خلال 24 ساعة، وقال هذه المرة القرار سياسى يحتم علينا تطوير الهجوم نحو المضايق صباح الغد.
يعرف الجميع عن الشاذلى أنه مقدام وشجاع عنيد وهجومى ولذلك قالت كثير من وسائل الإعلام العالمية أن الشاذلى كان مع تطوير الهجوم إعتمادا على شخصيته وصفاته السابقة.
وعلق الشاذلى على ذلك قائلا: إننى لا أربط بين هذه الصفات وبين قرار تطوير الحرب إلى الشرق.. أنا لا أستطيع أن أقامر بمستقبل بلادي. كنت دائما ضد تطوير الهجوم نحو الشرق سواء فى مرحلة التخطيط أو مرحلة الحرب، وقلت هذا أمام الجميع.
لماذا حدث الخلاف مع السادات
فى لحظات الأزمات أو الإخترقات الحربية من الطبيعى أن يحدث خلاف بين القادة حول التعامل مع هذا الإختراق كما حدث فى موضوع الثغرة.
لكن المشكلة عندنا فى تداخل الأدوار بين العسكرى والسياسي، فموضوع تطوير الهجوم موضوع عسكرى تماما. وفى حالة خلاف بين العسكريين لابد أن يأتى القرار السياسى مؤيدا لأحد الطرفين ضد الآخر وهذا طبيعي. لكن الطبيعى أيضا أن يكون رأى القادة الميدانيين هو الفيصل. لأنهم هم الذين سيقومون بالتطوير.. وكان رأى الفريق الشاذلى وقادة الجيشين الثانى والثالث عدم تطوير الهجوم بينما كان رأى الفريق أحمد إسماعيل واللواء الجمسى والرئيس السادات تطوير الهجوم.
ولذلك عندما وصل قرار تطوير الهجوم للواء سعد مأمون قائد الجيش الثانى أعلن إستقالته.. ولم يكن غريبا أن يصاب اللواء مأمون بصدمة شديدة بعد فشل هذا الهجوم، وينقل بعدها إلى مستشفى المعادي.
السؤال.. لماذا كان التصميم على تطوير الهجوم؟
لا توجد إجابات مقنعة، وإن كان الشاذلى يرد الأمر إلى جهل بالأمور العسكرية للقائد السياسي. لكن ماذا عن القائد العسكرى الذى هو وزير الدفاع؟ ربما كان رأى اللواء الجمسى هو الذى يقوى رأى الفريق أحمد إسماعيل، رغم أن الجمسى كان يقول بتطوير الهجوم مبكرا قبل أن يفيق العدو ويستعيد توازنه، وهو رأى قد تكون له وجاهته ولكنه إصطدم بالبطء والتأخير فى اتخاذ القرار.. وهى صفات انتقدها الجمسى فى وزير الدفاع.
ويبقى رأى الشاذلى طبقا لخطته منذ البداية هو الأكثر دقة، وتأييد قائدى الجيش الثانى والثالث هما أفضل دليل على ذلك للحفاظ على النصر.. وتجنيب ما حدث بعد ذلك.
وموقف الشاذلى هو نفس موقف مونتجومرى خلال الحرب العالمية الثانية فى معركة علم حلف عام 1942، عندما رفض بحذر إعطاء روميل فرصة للهجوم المضاد وتحويل هزيمته إلى إنتصار. ولذلك يقول الخبير الأمريكى الكولونيل تربيفور دى يوى إن أى هجوم مصرى فى 9، 10 أكتوبر كان سيلقى نفس المصير الذى إنتهى إليه هجوم 14 أكتوبر حتى وإن لم يكن سيحسم بنفس الطريقة. وهو هنا ينسف فكرة الجمسى أو أى فكرة للهجوم عموما. لم نكن أصلا فى حاجة إليه.
الخلاف بين القادة الاسرائيليين
لو إلتزمنا بالخطة التى وضعت ما وقعت الثغرة على الاطلاق، هذا ما يؤكده الشاذلى كقائد عبقرى من خلال مذكراته وهو ما أثبتت الأيام صحته، إنه قائد فذ من فصيل روميل ومونتجومرى ولايقل عنهما كفاءة أبدا. ولذلك أطلقوا عليه روميل العرب.
فى أحد حواراته يقول الشاذلى أن القادة الاسرائيليين اختلفوا حول كيفية مواجهة الجيش المصرى، منهم من أراد القيام بهجوم مضاد، ومنهم من أراد الانتظار حتى يتوغل الجيش المصرى فى سيناء ويتم تدميره. وخلال النقاش والخلاف الذى كانت تحضره جولدا مائير ورئيس الأركان إليعازر، وصلتهم إشارة تقول إن المصريين توغلوا فى سيناء وأجروا تطويرا لعملية القتال. مما منح القادة الفرصة لأن يتوقف الخلاف بينهم بسبب هذا الخطأ الجسيم فى تطوير الهجوم يوم 14 أكتوبر.
توالى الأخطاء
بعد أن حدث الخطأ فى تطوير الهجوم توالت الأخطاء، كان الخطأ الثانى ـ كما يقول الشاذلى أننا لم نرجع بقوات الفرقتين المدرعتين نحو الغرب مرة أخرى. فحدثت الثغرة، وكان رأيى عندما حدثت يوم 15، 16 أكتوبر، ضرورة المناورة بالقوات وسحب جزء من الشرق للغرب، وبدلا من أن يحدث ذلك استمر الخلاف بينى وبين السادات وأحمد اسماعيل حتى يوم 20 أكتوبر، فتمكن العدو من نقل المعركة من شرق القناة إلى غربها، والعدو الذى كان يمتلك 8 ألوية مدرعة استطاع إدخال 5 ألوية إلى الغرب و3 ظلت فى الشرق، بينما كانت جميع القوات المدرعة المصرية فى الشرق عدا لواء 23 مدرع الذى تمكن العدو من تدميره بالكامل.
وحتى ليلة 20 أكتوبر كان بالامكان التعامل مع الثغرة، وطلبت سحب أربع ألوية مدرعة من الشرق للغرب حتى اتعامل مع الثغرة يوم 21 أكتوبر ورفض السادات الفكرة رغم أنه كان مقتنعا بها فى البداية لتدمير الثغرة، لأنه أصبح يسعى إلى حل سياسى، بينما كنت أريد حلا عسكريا، المشكلة عند السادات أنه كان يخلط بين سحب القوات وانسحابها، فالسحب تعبير عن المناورة وليس انسحابا كما حدث فى 67 وكما كان يظن السادات. فتدمير الثغرة يوم وقوعها 17 أكتوبر كان يمكن أن يتم بدون خسائر، وحتى يوم 21 أكتوبر كان يمكن القضاء عليها ولو بخسائر أكبر قبل أن يتعرض الجيش الثالث للحصار ويصبح السادات عجينة لينة فى يد كيسنجر لو أخذت الفرصة ما وقع الحصار ولا حدثت كامب ديفيد أصلا.
لماذا أقال السادات الشاذلى؟
يوم 12 ديسمبر كانت المرة الأولى التى يغادر فيها الشاذلى مركز العمليات إلى منزله، وبعد وصوله بقليل رن جرس التليفون وكان المتحدث هو وزير الدفاع يطلب مقابلته، وفى مكتبه بوزارة الدفاع أخبره أحمد اسماعيل بقرار الرئيس السادات إقالته من منصبه وتعيينه سفيرا لمصر فى لندن، رفض الشاذلى ولكن السادات أقنعه أنه سيكون مسئولا عن توريد السلاح للجيش من ألمانيا.
لكن لماذا أقال السادات الشاذلى بعد دوره الفذ فى حرب أكتوبر تخطيطا وتنفيذا حتى وصفته مجلة تايم الأمريكية يوم 22 أكتوبر بأنه العقل المدبر لعملية عبور القناة.
الاجابة نسمعها من السياسى العتيد فى دهاليز السياسة المصرية مصطفى الفقى يقول: أدركت أن نهاية الشاذلى فى الحياة العملية أوشكت على النهاية عندما رأيت صورته تتصدر غلافى مجلة بارى ماتش الفرنسية والحوادث العربية باعتباره أول رئيس أركان حرب للقوات العربية المنتصرة. وشىء قريب من هذا يؤكده الكاتب الراحل جمال الغيطانى قائلا: عندما زرت الجبهة السورية وبيروت كان الشاذلى تحول إلى بطل قومى تباع صورته بـ 3 ليرات.