تظل حاجة الإنسان للشعور بالأمان أمرًا حيويًا، فبتطور حياته تعددت مجالات نشاطه وتنوعت، وتبعها توسع مفهوم الأمن؛ ليشمل كل مجالات العمل والنشاط الإنساني، ويتجاوب مع طبيعة كل نشاط، ثم يحدد كيفية تحقيقه، مع توجيه الاجتهادات الأمنية والعلوم الإنسانية والنفسية نحو تحديد خطوات إجرائية لجعل الأمن في موضع التنفيذ.
نشأ مفهوم عدم الأمان الوظيفي، بعد الأزمات الاقتصادية العالمية المتتالية، بدايةً من عام 1929، ثم تمدد النظام الرأسمالي الذي تسبب في انسحاب القطاع العام من النشاط الاقتصادي، وإطلاق يد القطاع الخاص لامتلاك وسائل الإنتاج، والعمل في القطاعات الاستراتيجية، ثم إعادة الهيكلة الصناعية، والتوسع في تطبيق تكنولوجيات المعلومات، وتعمد صياغة عقود عمل تضمن مصالح جهة العمل على حساب مصلحة الموظفين.
والمقصود من الأمان الوظيفي، قلق الموظفين من وضعهم المهني، وعدم التأكد من استمرار في وظائفهم مستقبلًا؛ ما ينعكس على حالتهم النفسية، وبالتالي الاستقرار الأسري.
والأمان عمومًا، شعور داخلي بالراحة والطمأنينة يوفر جوًا مناسبًا لممارسة الأنشطة الحياتية دون خوف أو قلق، فلا ينشأ الأمان من فراغ، بل باتباع سبل الوقاية والحماية والدفاع؛ من خلال برامج تدريبية لمسؤولي الأمن الوظيفي؛ لما لهم من دور هام في رفع مستوى الإنتاج والكفاءة في العمل.
ويُعد الأمان الوظيفي من أهم المتغيرات تأثيرًا في تحفيز العاملين والموظفين، فاعتقادهم بالبقاء في مناصبهم محفز إيجابي في تغيير النظم السلوكية السلبية في العمل.
ويدل الأمان الوظيفي على استقرار الوظيفة؛ إذ يرتبط عادةً بنتائج إيجابية؛ كالالتزام والانضباط والدقة والكفاءة، وإلا تراجعت معدلات أداء الكوادر؛ لعدم تقدير الإدارة العليا، فتبدأ تلك الكوادر في البحث عن عمل في مؤسسات أخرى، فعدم الأمان الوظيفي متغير شخصي وليس رد فعل نمطيًا، فالعاملون يتفاعلون بشكل مختلف فيما بينهم عندما يتعرضون لمواقف متشابهة؛ كالغموض والشك في استمرار العلاقة الوظيفية مستقبلًا.
وتتمثل أهمية الأمن الوظيفي في المؤسسة في تحقيق طلبات الموظفين، والحفاظ على الاستقرار في العمل، وزيادة الإنتاجية، وحماية القيم الاجتماعية والإنسانية في بيئة العمل.
ومن أهم العوامل التي تؤثر على الأمان الوظيفي:
ــ الظروف الاقتصادية: في أوقات الانتعاش الاقتصادي ترتفع درجة الأمان الوظيفي عنها في حالة الانكماش أو الركود الاقتصادي.
ــ بيئة العمل: في ظل الاستقرار السياسي والأمني تثبت التشريعات وتستقر التعاملات؛ فترتفع مستويات الأمان الوظيفي، بعكس حالة الاضطرابات السياسية والاهتزاز الأمني.
ــ المهارة والخبرة: ينعم العامل الماهر وذو الخبرة بأمان وظيفي أعلى من غيره؛ لإدراكه حاجة المؤسسة إليه.
لا توجد مؤسسة ناجحة، إلا وتحقق الأمن الوظيفي، الذي تقوم فكرته على أساس رفع درجة الطمأنينة لدى الموظف على مستقبله الوظيفي؛ فالقلق من احتمال فقدان العمل ذو آثار سيئة على صحة الفرد، تعادل الأذى الذي تسببه أمراض ارتفاع الضغط والإجهاد النفسي والعقلي والعصبي.
تتعدد مفاهيم الأمن الوظيفي في ضوء تباين اتجاهات تفسيره ما بين الأمن الفكري، والثقافي، والسياسي، والاقتصادي، فهو جملة ممارسات في إطار معين بإجراءات خاصة ومحددة؛ للتخلص من المخاطر التي تهدد السلامة؛ لذا يعد مسؤولية اجتماعية، مقصودة بغرض توفير الحماية.
ومن أهم معوقات تحقيق الأمن الوظيفي:
ـ عدم اكتراث المسؤولين بالإنتاجية، والتقليل من أهمية العمل المنجز واستسهاله عملية إنجازه وتقليل قيمته، وغياب مبدأ متابعة نتائج مراحل العمل، وعدم إدراك واقع الإنتاج الوظيفي.
ـ المبالغة أو التحيز لأعمال ليست ذات قيمة على حساب أخرى تفوقها أهمية.
ـ الخلل في النظام الإداري، وعدم ثبات آليات العمل بشكل واضح، وانعدام المعايير العامة أو الخلل في تطبيقها.
ومن المفارقات التي تدعو للتأمل، أن يؤثر غياب الأمان الوظيفي على أداء العاملين سلبًا أو إيجابًا، فقد يضر إذا استخدم للتهديد بفقدان الوظيفة بدلًا من أسلوب التحفيز؛ فذلك يفقدهم الشعور بالالتزام، ويدمر الثقة في مكان العمل، ويؤثر على مستوى الإنتاجية.
وبالرغم من ذلك، هناك من يرى أن بعض القلق إزاء الأمان الوظيفي قد يحفز الموظفين لتحسين الأداء، خاصة في ظروف تقليص العمالة؛ حيث يجعل الموظفين يعملون بجد لإثبات قيمتهم أمام الإدارة.
وفي المقابل تبزر حقيقة البعدين الرئيسيين للأمان الوظيفي:
الأول: البعد الموضوعي؛ أي عدم وجود مؤشرات تهدد بفقد الوظيفة.
الآخر: البعد الشخصي؛ أي الشعور بعدم وجود حواجز تمنع البقاء في الوظيفة حاليًا أو مستقبلًا.
إن المشاكل النفسية مسؤولة عن 75 % من حالات التقاعد المبكر، فإذا كان البيت المستقر بيئة مناسبة للإنتاج، فكذلك ينعكس الأمن الوظيفي على استقرار الأسرة؛ لذا من الضروري أن تجد المراكز الاستشارية العائلية، وإدارات الموارد البشرية بالمؤسسات والدوائر الحكومية، هامشًا أوسع لعملها؛ بتحقيق الاستقرار الأسري؛ بالإسهام في توفير الأمن الوظيفي، واستعراض المشاكل التي تعوقه، ومعرفة أسباب الإحباط الوظيفي، ومواجهته، ووقاية الأسرة من انعكاساته.