تُعزَى أهمية الاكتفاء الذاتي إلى إمكانية الاستغناء عن الاستيراد لاسيما في الظروف الحرجة التي قد تمر بها الدولة مثل حالة الحرب؛ حيث يتعذر إقامة علاقات اقتصادية مع دول أخرى، ومن ناحية أخرى يتم توجيه جميع القوى الاقتصادية والمالية في اتجاه المجهود الحربي، ما يعطي للقيادة السياسية أريحية نسبية في تعاملها مع تلك الأمور لاطمئنانها إلى عدم حاجتها إلى الاستيراد من الخارج. وفي سياقٍ آخر، تفيد هذه الاستراتيجية في تجنب الكثير من المخاطر المتوقعة في حالات الشحن لمسافات طويلة مثل التعرض للحوادث أو تلف السلع المستوردة. ولا شك أن الدولة المعتمدة بشكل كبير على منتجاتها المحلية سوف تنجح في خلق الكثير من أسواق العمل الموازية للأنشطة الزراعية؛ حيث تحتاج الدولة المنتجة إلى المصانع من أجل إتمام عمليات الإنتاج وتجهيز المنتجات للتصدير، وهكذا يمكن القضاء تمامًا على البطالة.
كيف يمكن تحقيق الاكتفاء الذاتي؟
تحلم الكثير من الدول بتحقيق الاكتفاء الذاتي من أجل إنجاز طفرة في سياستها الداخلية والخارجية ونهضة اقتصادية تساهم بشكل كبير في تحسين الأحوال المحلية.
ومن خلال تقصِّي وتتبع بعض النماذج والتجارب لبعض الدول التي نجحت في ذلك، يمكن إيجاز كيفية تنفيذ هذه الاستراتيجية في النقاط التالية:-
التنمية الزراعية: لا شك أن الزراعة هي المصدر الرئيسي للغذاء، ومن ثم فإن الاهتمام بقضايا التنمية الزراعية من شأنه المساعدة في تحقيق الاكتفاء الذاتي من المواد الخام الأساسية للأغذية والطعام. وعادةً فإن الدولة الراغبة في تغطية كافة حاجتها من المواد الغذائية عليها أن تخطط بوعي من أجل ذلك؛ حيث يجب عليها أن تعمل على توسيع الرقعة الزراعية وتخصيص مساحات شاسعة للزراعة وحمايتها من التجريف أو البناء غير المرخص عليها، فضلاً عن أنشطة الاستصلاح الزراعي للأراضي الصحراوية من أجل زيادة نسبة الأراضي المزروعة والاستعانة بالخبراء في هذا المجال. ومن ناحية أخرى، يُفَضَّل اللجوء إلى أحدث الوسائل العلمية في الزراعة والاعتماد على الميكنة الزراعية ومقاومة آفات الحقول بأسلوب علمي بحيث يضمن نتائج إيجابية وبالتالي تتم حماية المحاصيل من التلف والإهدار.
ويجب أيضًا على الجهات المسؤولة الاهتمام بمصادر الري وتطهير الترع والمجاري المائية لضمان الحصول على الحصص المناسبة من المياه اللازمة لعمليات الري.
التنمية الصناعية: إن الاهتمام بحركة التصنيع المحلي تأتي بصفتها نتيجة حتمية للتنمية الزراعية؛ حيث تحتاج الدولة في هذه الحالة إلى معالجة المواد الخام الزراعية وإعدادها من أجل إنتاج سلع قابلة للاستهلاك، لذلك ينبغي للدولة إعداد خطة متكاملة من أجل افتتاح عدد كبير من المصانع المعنية بالصناعات الأساسية مثل مصانع الغزل والنسيج والأخشاب والأغذية من أجل تلبية الاحتياجات المحلية وتصدير الفائض من أجل زيادة الدخل القومي. ومن ضمن مجالات التصنيع التي يجب وضعها أيضًا في الاعتبار هو مجال تصنيع الطاقة؛ حيث تعتمد تلك الصناعة على نشاط التعدين الذي يلزمه مصانع البترول ومعامل التكرير التي تنتج مشتقات النفط من أجل تسيير المركبات في جميع المسطحات البرية والجوية والبحرية؛ حيث يؤدي ذلك إلى إيقاف حركة الاستيراد من الخارج والتوجه إلى الاعتماد على المنتج البترولي الوطني ما يصب في مصلحة الدولة لا سيما إذا اتجهت أيضًا إلى تصدير منتجاتها البترولية. وتبلغ الدولة ذروة النجاح في المجال الصناعي في حالة الدخول إلى مجال الصناعات الثقيلة مثل صناعة السيارات والقاطرات والطائرات ومواد البناء المعقدة، وتزداد نجاحًا إذا استطاعت إصدار منتجات رفيعة المستوى يمكنها المنافسة في الأسواق العالمية.
تطوير حركة التجارة: يساهم تعزيز حركة التجارة الداخلية والخارجية في تسهيل وتسريع حركة تداول السلع ما يؤدي إلى وصولها إلى المستهلك دون عراقيل أو تعقيدات، وفي حالة تغطية الدولة لجميع احتياجاتها من السلع الأساسية والثانوية فإنها بطبيعة الحال سوف تتجه إلى التصدير من أجل زيادة دخلها القوي وارتفاع قيمة عملتها المحلية نتيجة لزيادة الطلب عليها. إن التجارة تمثل رأس الهرم الاقتصادي وازدهارها ينعكس على كل قطاعات الدولة ويساعد أيضًا في ترسيخ الأنشطة الأساسية التي تعتمد عليها والممثلة في القطاعين الزراعي والصناعي. في الواقع هناك الكثير من الدول النامية التي استطاعت بفضل التخطيط الجيد تغيير تصنيفها والانتقال إلى خانة الدول المتقدمة بسبب تصميمها على تحقيق الاكتفاء الذاتي مثل دولة الصين التي بات في إمكانها الآن منافسة الدول العظمى اقتصاديًا بفضل اعتمادها على منتجاتها المحلية الزراعية والصناعية بشكل شبه كلي، بل وصارت من كبرى الدول المصدرة. وبالتالي يتضح لنا أن تطبيق هذه الاستراتيجية يضمن بنسبة كبيرة تحسين الظروف الاقتصادية للدولة حتى وإن واجهها بعض الصعوبات في البداية. وهكذا قد اتضح لنا بشكل واضح أهمية الاكتفاء الذاتي وأهدافه ومزاياه وكيفية تحقيقه.